نعمان عاشور - رجاء النقاش - بساطة الإنسان وجرأة الفنان
نعمان عاشور بساطة الإنسان وجرأة الفنان
الذين أتيح لهم أن يعرفوا الفنان الكبير الراحل نعمان عاشور عن قرب، كان واضحا أمامهم في كل الأحوال والظروف أن نعمان انسان بسيط إلي أبعد حد، فقد كان وديعا لا يعرف العنف، وكان دائم المجاملة للناس لا يميل إلي الاختلاف مع الآخرين، ولا يحب الصراع الحاد في أي موقف.. كان من النوع الذي يؤثر التعامل بالحسني مع الجميع حتي لو كانوا من أعدي أعدائه وأشد المحاربين له والواقفين في طريقه.
ولقد عرفت نعمان عاشور منذ سنة 1591, وقد كنت أشعر دائما بأن نعمان يعاني من احساس عميق بالخوف، ولم يكن مصدر هذا الخوف هو المشكلة الاقتصادية، فقد عاش نعمان حياته في نوع من الاستقرار المادي المحدود الذي كان راضيا به ومستريحا إليه, وظلت صلتي به قائمة حتي نهاية حياته. وإن كانت بعض ظروف الحياة قد فرضت نوعا من التوقف والانقطاع في هذه الصلة لسنوات طويلة. وكنت إذا لقيته بعد هذه السنوات وجدته علي حاله لم تغيره الأيام.. نفس البساطة في التصرف والتعامل مع الناس، ونفس النزعة الكامنة فيه إلي الفرار من مواقع الصراع الحاد. أو الاصطدام العنيف مع الآخرين، ثم نفس التعفف في المطالبة بحقوقه مع السعي إليها بهوادة وفي صورة لا تزعج أحدا ولا تلقي عبئا علي إنسان.
فلقد نشأ نعمان عاشور في أسرة ريفية علي شيء من الثراء. فلم يعرف الفقر الساحق الذي تعرض له عدد غير قليل من أبناء جيله من الكتاب والفنانين، وإستطاع نعمان في أواخر الستينيات أن يبني لنفسه بيتا جميلا في أطراف المعادي، وهو البيت الذي ظل يعيش فيه مع أسرته حتي النهاية. وهكذا ، فإن الأزمة الاقتصادية لم تطحنه كما طحنت غيره من المثقفين وأصحاب المواهب.
ومن ناحية أخري فلم يكن في حياته العائلية قلق يمكن أن يسبب له أي نوع من الخوف، فقد كان صاحب أسرة متماسكة، وكان شديد التعاطف والتفاهم مع زوجته الإنسانة الطيبة المثقفة الدكتورة هدي حكيم التي توفيت سنة 0891، وكانت وفاتها صدمة هزت نعمان عاشور بعنف وقسوة، وبقي له بعد ذلك أولاده الثلاثة »سعد ونهال وهالة« ينعم معهم بمودة هادئة ودفء عائلي كبير.
فلماذا إذن كان الخوف يسيطر علي نعمان عاشور؟ ولماذا كان يشعر أحيانا بالذعر من واقع الحياة التي يعيشها؟
كان نعمان عاشور صاحب موقف في الأدب والفن والحياة والسياسة. وكان مؤمنا أشد الإيمان بهذا الموقف منذ أن دخل الجامعة، قسم اللغة الانجليزية بكلية الآداب سنة 8391. حيث نشأت بينه وبين أستاذه الانجليزي »هاورث« صداقة عميقة، وكان هاورث من أحرار الانجليز المدافعين عن الأفكار الجديدة. مما أدي إلي طرده من مصر بعد فترة وجيزة. فما كان الانجليز يريدون من أساتذتهم في تلك الأيام أن يعلموا الطلاب المصريين مباديء الحرية والتمرد علي الاستعمار. بل كانوا يريدون منهم شيئا واحدا هو أن يعلموا الطلاب حب الثقافة الانجليزية والتعلق بالحضارة الغربية. وقد تأثر نعمان عاشور بأستاذه »هاورث« وأسف عليه أشد الأسف عندما اضطر إلي الرحيل بعد أن غضبت عليه السلطات الانجليزية وطردته من البلاد.
علي أن "هاورث" لم يكن إلا عاملا واحدا من عوامل التنوير في شخصية نعمان عاشور. فقد اندمج نعمان في الحركة الوطنية المصرية طيلة الأربعينيات، وبخاصة بعد تخرجه في الجامعة سنة 2491. وقد خرج نعمان من هذه التجارب، أو قل من هذه التربية الثقافية والوطنية بموقف محدد في الأدب والفن والسياسة، وكان مؤمنا أشد الإيمان بهذا الموقف منذ بداية نضجه واكتمال تكوينه.
وكان هذا الموقف واضحا وبسيطا مثل شخصية نعمان عاشور. فقد كان نعمان يؤمن بأن الأدب والفن تعبير عن الواقع الاجتماعي علي أن هذا التعبير يمكن أن ينحرف ويتحول إلي مجرد تصوير لما يجري في الحياة، ولكن نعمان لم يكن من أصحاب هذه المدرسة التي تصور الواقع دون أن يكون لها رأي فيما يجري ووجهة نظر فيه، فقد كان نعمان يري أن الأدب والفن ينبغي أن يتحولا من مجرد التصوير إلي المساهمة في التغيير، والدعوة إلي فتح طريق جديد للمستقبل الاجتماعي، وهذا الطريق كان عند نعمان هو طريق العدالة الاجتماعية التي تقوم علي القوانين والتشريعات والمباديء المستقرة، ولا تقوم علي الإحسان والصدقة والنوايا الحسنة عند بعض القادرين من أصحاب الأموال والثروات والتغيير الاجتماعي الذي كان يؤمن به نعمان عاشور ويقوم علي الدعوة إلي توفير الفرص المتساوية بين الناس في المجتمع، حتي يتاح لكل إنسان أن يتعلم ويعمل ويبني حياته ويشارك في بناء مجتمعه ويعيش في أمن وكرامة. وكان من الطبيعي أن تقود هذه الأفكار نعمان عاشور إلي الإيمان بالطبقات الشعبية وتصويرها في فئة والدفاع عنها والكشف عن الجوانب الإنسانية الكامنة فيها، والتي كانت خاضعة علي الدوام لظروف اجتماعية واقتصادية قاهرة، حجبت الشخصية الشعبية وفرضت عليها وضعا غير إنساني في كل مجالات الحياة. هذه المعتقدات الفكرية والفنية والاجتماعية كانت هي سر الخوف الذي سيطر علي نعمان إلي آخر حياته.
ولقد كان نعمان بطبيعته النفسية بعيدا كل البعد عن أن يكون صاحب شخصية »زئبقية« مثل بعض أبناء جيله، ممن تعلموا القدرة علي المهادنة والتلون، وتغيير الانتماء من موقف إلي موقف، ونفاق الحكام والجماهير علي السواء. كل ذلك حتي يهرب أصحاب هذه الشخصيات الزئبقية من أي مواجهة حاسمة أو موقف حاد قد يتعرضون فيه للأذي أو يخسرون شيئا مما كسبوه أو تضيع عليهم - بسببه - فرصة متاحة.
نعمان لم يكن من هذه الشخصيات القادرة علي التحول والتلون مع الظروف والقادرة علي تبرير ذلك بذكاء ومهارة في جميع الأحوال.. لم يكن نعمان يريد لنفسه هذا الموقف المتقلب والأهم من ذلك أنه لم يكن يستطيع. فشخصيته بسيطة واضحة، غير قادرة علي أن تكون مزدوجة لها باطن تخفيه، وظاهر تتعامل به مع الآخرين. وكان هذا الموقف الثابت لنعمان عاشور هو سر الخوف الكامن في أعماقه، فقد وجد بالتجربة أن هذا الموقف يعرضه لضربات عنيفة، لا يستطيع لها ردا ولا يستطيع لنفسه وقاية منها.
وهنا نصل إلي صفحة المتاعب والمنغصات التي تعرض لها نعمان في حياته. وهذه الصفحة موجودة علي الدوام في تاريخ كل كاتب وفنان مخلص وموهوب وصاحب موقف من أبناء هذا الجيل. وقد نال نعمان عاشور نصيبا كبيرا من هذه المتاعب والمنغصات. ففي بداية حياته العامة - وقد كان ذلك قبل الثورة - اتهم في قضية سياسية، وظلت هذه القضية معلقة في رقبته عدة سنوات متصلة.
وقد استمرت هذه القضية إلي ما بعد قيام الثورة وأذكر أن نعمان أخذ يحدثني بمرارة كاملة ذات ليلة في أوائل الخمسينيات عن هذه القضية. وكان قد تقدم لخطبة زوجته، وقال لي نعمان إنه صارح خطيبته بأمر هذه القضية وقال لها: إنه لا يريد أن يخفي عنها شيئا. أو يخدعها، فالقضية مازالت قائمة. ومن الممكن أن يصدر ضدي حكم بعد الزواج ويكون هذا الحكم بالسجن، وقد يمتد السجن إلي عدة سنوات.
ثم قال لها: إن أمامك كل الحرية في أن ترفضي الارتباط بإنسان قد تفاجئين بأنه مطلوب للسجن الطويل بحكم قضائي. وقد وقفت الزوجة النبيلة إلي جانب نعمان وقالت له: لقد اخترتك عن اقتناع وتقدير لك وسأظل معك في جميع الأحوال والظروف، ثم حاولت أن تدفع إلي نفسه بشيء من التفاؤل والثقة في المستقبل وقد صدر الحكم في هذه القضية بعد فترة من زواج نعمان. وكان الحكم بالبراءة، ولكن القضية - بسبب طول مدة عرضها أمام المحاكم. كانت قد زرعت في نفس نعمان خوفا عميقا وإحساسا داخليا بأنه لا يمشي علي الورد بل يمشي علي الأشواك.
والغريب أن نعمان لم يشر بكلمة واحدة إلي هذه القضية في مذكراته الممتعة والمهمة التي كتبها بعنوان »المسرح حياتي« وذلك ما يؤكد أنه كان يريد أن يسدل علي هذه القضية المقلقة ستارا كاملا من النسيان حتي أمام نفسه.
علي أن متاعب نعمان لم تنته بهذه القضية، فقد توالت عليه بعد ذلك هموم أخري عديدة، كان من بينها قرار فصله النهائي من وظيفته في وزارة الثقافة سنة 9591 وقد جاء هذا القرار ضمن حملة واسعة ضد المثقفين الذين اتهموا بالانتماء إلي اليسار. حيث طردوا من أعمالهم ودخل معظمهم السجن في ذلك العام وكان نصيب نعمان مقصورا علي الطرد من وظيفته.
وأود أن أتوقف هنا مع نعمان عاشور حيث يروي في مذكراته موقفا انسانيا مؤثرا يستحق التسجيل والتأمل. يقول نعمان: »أذكر في اليوم التالي لإعلان فصلي مباشرة أنني تلقيت مكالمة تليفونية ، وكان المتحدث هو الصديق الكبير الوفي نجيب محفوظ، وهتف الرجل بي ألا أنزعج أو أغضب وعرض علي أن يساعدني، بكل ما أوتي من قوة، وشكرته لهذه العاطفة، بل لهذه الشجاعة، فقد انقطع عن زيارتي بعدها الكثيرون من أقرب الأصدقاء، وكأني وباء، أو مرض يجب تحاشيه والبعد عنه، ولم يقف بجانبي مع نجيب محفوظ بوفائه المعهود غير المرحوم الدكتور محمد مندور، فبعد ساعات من مكالمة نجيب محفوظ المشجعة الساخطة علي ما يحدث، فوجئت »بالسني« سائق الدكتور مندور يطلب مني النزول معه للدكتور، لأنه كان في انتظاري داخل سيارته، وبدون أن يترك لي الفرصة، أمسك بي لانزالي معه لأن الدكتور لا يستطيع الصعود إلي مسكني في الطابق الخامس ونزلت بالبيجامة فقابلني مندور واقفا مترقبا وأخذني بالحضن وقبلني وكأنهم علي وشك أن يشنقوني. دفع بي مندور إلي داخل سيارته ثم اخرج دفتر شيكاته، ووقع علي شيك منه وترك المبلغ علي بياض، وكذلك التاريخ حتي أملي الشيك بنفسي وأحدد المبلغ الذي احتاج إليه من حسابه، وعبثا حاولت أن أفهمه أنني لم أصل بعد إلي شيء مما يتوهم وهو ألا أجد ما أعيش به وأخذ مندور يردد، »خذ لغاية ما تفرج وحتفرج.. إنت مش شوية.. هو احنا عندنا في المسرح حد غيرك؟.. ما ظهرش!! مين حيكتب لنا اللي أنت بتكتبه«.
ويواصل نعمان رواية ما حدث فيقول:
رددت لمندور الشيك في امتنان والدموع تطفر من عيني، ولم يقبله إلا بعد عناء شديد وبعد أن أقسمت له أن أوضاعي أفضل مما تصور.. ولكنه استحلفني إذا احتجت إلي شيء ألا أتردد في طلبه منه. وبالتليفون.. وما يهمكش حتي لو كان التليفون مراقبا.. كلمني.. ولم يتركني مندور إلا بعد أن وعدته بالاتصال ووعد هو بلقائي دائما.
هذا هو الموقف الذي رواه نعمان عاشور في أزمة فصله من وظيفته، وهو هنا يرسم صورة إنسانية لبعض علاقات المثقفين في الأوقات الصعبة وهي صورة لا تنسي.
خرج نعمان من هذه الأزمة بعد شهور واستطاع أن يعمل بجريدة الجمهورية واستقر بها سنوات تمتد من 9591 إلي 4691. وقد ساعده علي هذا الاستقرار أن هذه السنوات كانت سنوات مجده الفني فوق خشبة المسرح وفيها قدم إحدي أهم مسرحياته وهي »عيلة الدوغري« التي ثبتت أقدامه نهائيا كرائد للمسرح الواقعي الجديد في مصر بل في العالم العربي كله.
علي أن فترة الهدوء هذه لم تستمر، فلقد صدر في صيف 4691 قرار، مازالت ظروفه وملابساته غامضة إلي اليوم، بطرد نعمان وعشرات من كبار الكتاب في مصر من عملهم في جريدة الجمهورية، ونقلهم إلي وظائف مختلفة في مؤسسات الدولة التي لا علاقه لها بالصحافة أو الثقافة، فبعضهم نقل إلي شركات الأخشاب والبعض نقل إلي وزارة التموين، ونقل الآخرون إلي وظائف مشابهة من هذا النوع العجيب، وبقي البعض عاطلا بغير عمل، لايدري سرا لما حدث، ولا يعرف تفسيرا مقبولا لمثل هذا القرار المرير.
ومن المفارقات أنه كان بين المطرودين من جريدة الجمهورية في هذا القرار طه حسين ومحمد مندور. وكانت صدمة نعمان عاشور بسبب هذا القرار كبيرة، مما ثبت في نفسه أنه لن يحصل علي الاستقرار في حياته أبدا، وزاد من يقينه بأنه يتعرض لمطاردة ليس لها نهاية.
واستطاع نعمان بعد جهود شاقة أن يعمل في أخبار اليوم، حيث كان يكتب عمودا أسبوعيا قصيرا، وقد بقي في هذا الموقع حتي نهاية حياته وكان به راضياوسعيدا، برغم أن تلاميذه ومن هم أقل من تلاميذه كانوا يتمتعون في العمل الصحفي والثقافي بأوضاع أفضل وفرص أدبية أوسع.
هذه هي قصة المطاردة التي تعرض لها نعمان في حياته المهنية والوظيفية، ولكن المطاردة نفسها كانت وراءه أيضا في معظم الأحيان، كفنان مسرحي كبير. وأنا أقولها بوضوح وصراحة: إن نعمان لم يستطع عرض معظم مسرحياته دون أن يجد في ذلك عناء شديدا، ودون أن يتصدي لمحاربته من يكرهون استقرار مدرسته الفنية الواقعية علي أسس راسخة.
وآخر ما أصابه قبل وفاته بأسابيع أن مسرحيته التي أعدها عن الحملة الفرنسية علي مصر قد تعرضت للرفض من المسرح القومي، ليس لأنها ضعيفة، وليس بسبب الاعتراض علي قيمتها الفنية والفكرية، ولكن السب كان - ويا للعجب - أنه ليس هناك ميزانية لتقديم هذا العرض المسرحي لنعمان عاشور. وفي ليلة مأتم نعمان عاشور التقيت بالمخرج المسرحي اللامع سمير العصفوري الذي كان بالصدفة يجلس إلي جواري. وقد روي لي بعض فصول رفض مسرحية نعمان الأخيرة التي كان سمير يستعد لاخراجها، وكان سمير العصفوري يحدثني وفي عينيه دموع حقيقية عن هذه القضية، وقد زاد من تأثره انه كان يعمل مع نعمان في المسرحية حتي ساعات قليلة قبل وفاته.
ولقد كان للظروف التي تعرضت لها مسرحية نعمان عاشور الأخيرة أثرها علي نفسه، فرحل عن دنيانا وهو حزين. وبرغم انني لا اعرف تفاصيل هذه القصة العجيبة، فإنني لا أفهم كيف يعجز المسرح القومي عن تقديم مسرحية لكاتب كبير وصل عن جدارة فكرية وفنية إلي مرتبة الرواد.. وبخاصة أن المسرح القومي الآن تحت قيادة فنانة كبيرة هي سميحة أيوب، لاشك في أنها تستطيع تقدير الأمور علي وجهها الصحيح.. إنها فنانة ذكية وقوية كان باستطاعتها أن تفرض مكانا لائقا لمسرحية نعمان، فإن وجدت من يعرقل هذا الأمر فقد كان باستطاعتها أن تحتج بالاستقالة، وتعطي للقضية حجما وأهمية، ولست أشك في أن موقفا من هذا النوع، وسميحة أيوب قادرة عليه لأنها أكبر بكثير من وظيفتها، أقول: كان باستطاعة هذا الموقف أن يحل المشكلة وأن يفرض عرض مسرحية نعمان في هذا الموسم أو الذي يليه.
ولكن هذا هو ما حدث.
اعتذر المسرح القومي عن عرض آخر مسرحية لنعمان، وكان من حقه أن يشعر في هذا الموقف بلمسة حادة من الاضطهاد الذي تعود عليه في كثير من مراحل حياته المسرحية.
ولابد هنا من الاشارة إلي موقف أحد الفنانين الموهوبين المخلصين في المسرح المصري وهو محمود الحديني. لقد ظهر الحديني في الصورة وأعلن انه علي استعداد لتقديم المسرحية علي خشبة المسرح الحديث الذي يشرف عليه برغم ضعف الامكانات وقلة الحيلة، وكان موقف الحديني بردا وسلاما علي قلب نعمان عاشور.. فمات وهو يدعو له ويثني عليه. تلك هي الخلفية التي تكونت منها شخصية نعمان عاشور كإنسان. فهو صاحب موقف لم يغيره ولم يساوم عليه حين اختار منذ البداية أن يقف في صف العدالة الاجتماعية والطبقات الشعبية بقلبه وعقله ولسانه وفنه.
وهو علي الدوام يشعر »الخوف« في أعماقه لانه يتعرض في كل خطواته لضربات متلاحقة لاتتيح له استقرار النفس أو الشعور بالأمان.
وهو بعد ذلك كله ليس مقاتلا ولا مناورا بحيث يستطيع أن يرد الضربات بالحيلة والالتفاف والتلون، أو يردها بضربات أشد. ولذلك كانت معاشرته الطويلة للخوف وانتظار الضربات الخارجية ، من أكبر العوامل التي أثرت علي نفسيته البسيطة الطيبة، ودفعت به في كثير من الأحيان إلي الانسحاب الهاديء من الحياة العامة وإيثار العزلة والانطواء. علي أن مكمن القوة التي لاتهاب ولا تتردد كانت دائما عند نعمان.. في فنه.
فقد كان في مسرحه لا يخاف ولا يخفي وكان قويا علي الدوام في إعلان رؤيته الفنية والفكرية وقد استمد قوته الفنية من عناصر متعددة وينابيع صافية غزيرة. فلقد تمتع منذ البداية بموهبة مسرحية واضحة، بكل ما تحتاج إليه هذه الموهبة من قدرة علي الحوار المتميز، السهل المليء بالحركة والحيوية وقدرة علي رسم الشخصيات والاحساس بالواقع والسخرية الهادئة التي تنساب في عمله المسرحي بغير افتعال أو مبالغة.
ولقد تغذت هذه الموهبة بمتابعة نادرة لحركة المسرح الشعبي في مصر في العشرينيات والثلاثينيات، فلقد كان والده من عشاق مسرح الريحاني والكسار، وكان علي صلة شخصية بعدد من نجوم المسرح في هذا العصر، وقد تعود بعض هؤلاء النجوم علي زيارته في بلدته »ميت غمر« والنزول في ضيافته.. اما هذا الوالد العاشق للمسرح فلم يترك مسرحية للريحاني أو الكسار دون أن يشاهدها.
وفي بعض الاحيان كان يشاهد هذه المسرحيات أكثر من مرة وكان علي الدوام يصحب معه نعمان - في صباه - لمشاهدة هذه المسرحيات والالتقاء بنجومها المعروفين وبالمناسبة فنعمان من مواليد 8191.
ثم أتيح لنعمان بعد ذلك أن يضيف إلي موهبته وتجربته دراسة واسعة لفن المسرح عندما أصبح طالبا في قسم اللغة الانجليزية في كلية الآداب، وقد واصل دراسته للمسرح بعد خروجه، وكان من أهم كتاب المسرح العالمي الذين اهتم بهم نعمان عاشور الكاتب الكبير برناردشو ، فقد عكف نعمان علي دراسته وفهمه، وأصبح من أكبر المعجبين به والعارفين بأسرار فنه، وكان مسرح برناردشو هو المدرسة التي انتمي إليها نعمان وتأثر بها علي نطاق واسع وفي هذه المدرسة تعلم نعمان كيف يجمع بين السخرية الفنية والفكر الاجتماعي الذي يتطلع إلي التغيير ويدعو إلي التطور والبحث عن مستقبل جديد.
وكان العنصر الثالث والرئيسي في شخصية نعمان الفنية إلي جانب موهبته ودراسته، هو عشقه لتاريخ مصر واهتمامه بهذا التاريخ اهتماما واسعا حيث أقبل علي قراءته وفهمه واستيعابه، وكان تركيزه بالتحديد علي الصفحات النضالية في هذا التاريخ، بالمعني الواسع لكلمة النضال، فكل ما كان يساعد علي تطوير مصر واخراجها من ظلمات التخلف إلي نور الحضارة كان عند نعمان نضالا حقيقيا.
فالنضال لا يقتصر علي العمل السياسي بل يمتد إلي العمل الحضاري الاصيل، ومن هنا كان اهتمام نعمان بأبطال الفكر والتنوير في تاريخ مصر. مثل الجبرتي ورفاعة الطهطاوي والنديم، وقد أصدر نعمان عدة كتب تصور نضال مصر من أجل التطور والنهضة والتقدم والعدالة، كذلك قدم مسرحية عن رفاعة الطهطاوي بعنوان »بشير التقدم« عرضها المسرح المصري في أوائل السبعينيات، وهي أقرب ما تكون إلي »المسرحية التعليمية« وكان نعمان يهدف من تقديم هذه المسرحية إلي أن يفتح بابا للتأثير المسرحي العميق الذي يجعل المسرح في مصر مرتبطا بالتاريخ، وقادرا علي أن يلفت الأنظار إلي أن الأفكار الكبري الكامنة في هذا التاريخ، فقد كان الحلم الكبير بالنهضة والتقدم والعدالة شاغلا أساسيا لأبطال مصر منذ وقت طويل.
ولاشك في أن نعمان عاشور في نهاية الامر كان فاتح طريق جديد في المسرح العربي وكان مؤسس مدرسة جديدة في هذا الفن، وسوف يجد الباحثون والدارسون الكثير مما يأخذونه علي مسرحه، ولكن مثل هذه المآخذ كلها مقترنة علي الدوام بكل ما يقدمه الفاتحون والرواد، حيث يعاني هؤلاء الكثير من المصاعب.
ويواجهون مشكلات فنية وواقعية عديدة ويخوضون جهادا شاقا وهم يؤسسون شيئا جديدا لم يسبقهم إليه أحد ولم يألفه الناس من قبل، ثم تأتي بعد ذلك أجيال أخري لتواصل الطريق، وتعالج ما ظهر من نقص أو أخطاء في عمل الرواد الكبار.
وبرغم كل الملاحظات السلبية التي يمكن ان يسجلها الباحثون اليوم علي أعمال نعمان عاشور التي بدأ في تقديمها منذ 0591 وحتي وفاته منذ أسابيع.. فإن مثل هذه الملاحظات لا يمكن ان تقلل من دور نعمان الأساسي والرائد في المسرح العربي، وإذا اردنا أن نلخص هذا الدور، فإننا نقول ان نعمان قد استطاع بموهبته ووعيه ووطنيته، أن يربط أعماله الفنية ربطا قويا بالمبادئ الخمسة الشهيرة التي نادي بها الفنان العالمي »بريخت« عندما دعا إلي إقامة مدرسة مسرحية عالمية جديدة، وهذه المبادئ الخمسة هي:
الجرأة علي كتابة الحقيقة.
والذكاء في التعرف علي هذه الحقيقة.
وفن استخدام الحقيقة كسلاح في التأثير علي العقول والنفوس.
والقدرة علي اختيار الجمهور الذي يمكن أن تكون الحقيقة بالنسبة إليه مؤثرة وفعالة.
ثم الدهاء الفني في نشر هذه الحقيقة، فبدون الدهاء يصبح الفن المسرحي مباشرا وضعيفا وغير قادر علي التأثير.
وهذه المبادئ الخمسة إذا جمعناها في كيان فني وفكري واحد، فسوف نجدها وقد تجسدت أمامنا في شخصية نعمان عاشور.. الذي كان الدوام انسانا بسيطا وفنانا بالغ الجرأة قادرا علي الرؤية الصحيحة الصادقة.
رجاء النقاش
COMMENTS