يهودى من ميت غمر, يهودي مصري, حارة اليهود
«مارسيل شيريزى» يهودى مصرى هو يهودى من ميت غمر، أمه من أصول ايرانية، وجدته كانت تتكلم بالعامية المصرية تلتف بالملاءة وترتدى الحبرة واليشمك، وأبوه من أصول إيطالية. لكنه يتكلم العربية وكان صديقا حميما لصالح عبد الحى ويحفظ كل أغانيه.
لم أكن اتخيل أن يكون لى يوما ما صديق يهودي، وأن يكون لقب هذا الصديق إسرائيل بالتحديد، أنا المشحون طوال حياتي بذاكرة مؤلمة، لما فعلته هذه الدولة المصطنعة بالفلسطينيين وبأرضهم وأشجارهم. ولكنه تقاطع الأقدار، فقد انتقلت للحياة فى إيطاليا فى مطلع الثمانينيات، ولأن مردود الفن لم يكن كافيا لإعاشتى ،فكرت فى العمل مؤقتا فى مجال الترجمة، وفى يوم دعانى أحد أصحاب مكاتب الترجمة للتعارف. كان رجلا طويلا أصلع الرأسٍ فضوليا إلى درجة تثير الريبة، وكنت مندهشا من معرفته الدقيقة بمصر. قاد هو الحديث برشاقة، ثم توقف كثيرا ناحية الثقافة، وبدأ فى ذكر أصدقائه: صلاح أبو سيف وانجى أفلاطون ولطيفة الزيات وجورج حنين وأخيرا حدثنى عن اليسار المصري، وعن حياته فى مصر، وقال لى وهو يودعنى إن الكتب التى تتناول تاريخ اليسار المصري، تصر على تسميته مارسيل إسرائيل. رغم أنه رفع قضية أمام المحاكم الإيطالية ليغير لقبه، ويستبدله بأحد الألقاب القديمة للعائلة، ولم يكن الرجل يريد أن يرتبط اسمه بإسرائيل التى كان يراها خطرا على الجميع وأولهم اليهود.
ومن المعروف أن حارة اليهود.. آخر ما تبقي من يهود مصر فقد حملت الحارة معالمهم، وبدت حرفهم وصناعاتهم التي اشتهروا بها علي مر التاريخ ماتزال هنا شاهدة علي أن قوما قد عبروا من هنا او سكنوا هنا وانفقوا أيام عمرهم هنا.
وكان مارسيل يرى إن إسرائيل هى إعادة إنتاج للجيتو ولكن هذه المرة فى شكل دولة فقبل ظهور الصهيونية كان أغلب اليهود فى نظره، أنصارا لحركات التحرر كانت أرواحهم يقظة ومبدعة يساندون كل ما هو تقدمي وتحررى ويوسعون الفكر الانسانى بعقولهم الملهمة ولكنهم بعد أن بنوا دولة تنفذ عمليات قذرة نيابة عن الآخرين وأصبحت ترسانة للأسلحة من كل نوع تدعم أشرس النظم العنصرية بما فى ذلك نظام جنوب افريقيا الذى أهان الانسانية كلها لم تعد أرواحهم بنفس التألق فقد سيطرت عليهم ذكريات سوداء وأوهام قديمة وشاركوا جميعا فى التواطؤ للبقاء فوق أرض اغتصبت من أهلها.
طرد مارسيل من مصر لنشاطه اليسارى سنة 1953 بأمر من البكباشي جمال عبد الناصر وكان وقتها وزيرا للداخلية، ولذا فقد عاش نصف حياته فى مصر والنصف الثاني فى إيطاليا.
فكرتنا عن التعددية الاثنية والثقافية فى القاهرة والإسكندرية، والحضور الفعال للجاليات الأجنبية، كانت دائما موضع سخرية من مارسيل، الذى كان ينظر إلي هذه الجاليات بوصفها جزرا معزولة وسط محيط من البؤس والجهل. حكى لى مرة، أن واحدا من أصدقائه طرد من مصر بعد ثورة يوليو ظل يتابع أخبارها بشغف مع كل من يرد إلى باريس وسأل مرة أحد القادمين من القاهرة: إيه أخبار مصر فرد الرجل: مصر، مصر خلاص ما بقتش مصر، تصور ياعزيزى، إنك لما تمشي وسط البلد ما تقابلش دلوقت غير مصريين.
كان لمارسيل دور بارز كمناضل يسارى. ولكننى أقدر بشكل خاص إسهامه الكبير فى إنشاء الرابطة اليهودية لمكافحة الصهيونية، التى حلتها حكومة النقراشي باشا تحت ضغوط الصهيونية، وكانت آنذاك ذات نفوذ قوى بمصر،فقد نجح التيار الصهيونى بالتزوير فى انتخابات أحد نوادى اليهود، هو نادى ماكابي بحى الظاهر، وعندما اعترض أعضاء الرابطة من اليساريين وطالبوا بإعادة الفرز، هاجمهم الصهاينة وقوات البوليس المصري معا، وقامت الحكومة سنة 1947 بتصفية تلك الرابطة التى كانت نقلة نوعية فى مواجهة الصهاينة.
سألته مرة لماذا يتبرع للمنظمات التى تساعد اليهود ،وقد صار لهم دولة غنية وشرسة كما وصفها بنفسه، فقال لى إن البرتومورافيا وبريمو ليفى والسا مورانتى وهم من كبار الأدباء في إيطاليا يتبرعون مثله، فهم لا يريدون أن يتعرض إنسان للمهانة لأنه يهودى. وعن معنى أن تكون يهوديا، قال لى يوما إن اليهودى قد يختلف بالفعل عن الآخرين، لأنه «ما فيش عنده حاجة مهمة وحاجة موش مهمة، ولا شخص مهم وشخص تانى موش مهم، ما فيش حاجة اسمها مبلغ كبير ومبلغ صغير، وده موش بخل أومكر، اليهودى شايف أن لكل شىء قيمة، وده نتيجة عوز وغربة وترحال وقلق تاريخي طويل».
آخر مرة رأيته قبل رحيله، كنا نأكل بصحبته أنا وستيفانيا ويارا ابنتى وزوجته جانيت، وأصر على أن يذهب بمفرده لشراء ملابس داخلية من القطن المصري من الصالون الأخضر، صالون فيرس كما كان ينطقه بالفرنسية، وبقينا فى انتظاره فى شارع قصر النيل، لكنه تأخر كثيرا، قالت لى جانيت، مارسيل كبر يا عادل، روح دور عليه ده ممكن يكون تائه، ذهبت أبحث عنه ولكن البائع قال لى إنه انصرف ولم يشتر شيئا، بحثت عنه فى الشوارع، وتصاعدت مخاوفى لأنه كان قد تخطى التسعين، إلى أن وجدته منكمشا بين سيارتين، ذاهلا وغائبا وكأنه لم يعد يعرف المكان، وما إن اقتربت منه وتعرف على حتى انفجر فىّ غاضبا: «انتم رحتم فين، موش قلتلكم ما تتحركوش لغاية ما أرجع» فاحتضنته واعتذرت له كثيرا، ولم أفاتحه فى أى شىء. كانت هذه آخر مرة ينهرنى فيها، ولكنه قال لى وأنا أودعه، وكأنه يعتذر، أن الحياة تصبح رائقة لدى العجائز عندما يجلسون على مقاعدهم وسط الأصدقاء، ولكن عندما يكونون مطالبين بالحركة يصبح العالم ثقيلا.
أكتب هذه الكلمات وقد صرت فى عمره عندما التقيته فى ميلانو، واتذكر خفة ظله وحيويته المدهشة، ولحظات البهجة التى اقتسمناها، وأقدر كم كانت صداقته سندا كبيرا لى فى تجربتى الإيطالية. لم أستطع يوما أن أنادي الفنان حسن سليمان باسمه مجردا، وظل رغم صداقتنا العميقة: الأستاذ حسن. ولكن مارسيل والذى كان أكبر منه سنا دفعنى ببساطته الساحرة منذ أول لقاء بيننا لأن أناديه باسمه الأول فقط مارسيل.
«مارسيل شيريزى» يهودى مصرى، وُلد فى القاهرة بشارع تورسينا، وهو شارع شعبى بحى الظاهر، فى 17 يوليو عام 1913، وينتمى عن طريق والده إلى عائلة إيطالية هاجرت إلى مصر فى أوائل القرن التاسع عشر، فقد حضر جده إلى مصر بناء على فرمان من السلطان العثمانى لتعيينه رئيساً لطائفة اليهود فى مصر، ثم أصبح فى عهد الخديو إسماعيل عضواً فى المجلس الاستشارى، وتحول بعد ذلك بطبيعة منصبه إلى أحد كبار الملاك الإقطاعيين بمنطقة ميت غمر، وكان والده متمصراً إلى حد كبير، ومن أصدقائه من المصريين «يوسف الجندى»، رئيس جمهورية زفتى، وكان يجيد اللغة العربية ويرتدى الطربوش، ولم يتخلف مرة واحدة عن حضور حفل لسلطان الغناء المصرى «صالح عبدالحى». وفى نهاية الحرب العالمية الأولى فقد الأب كل ثروته، وبعده أصبح موظفاً فى شركة للحليج بصفته فرازاً للقطن. أما والدته فكانت من أصل إيرانى، وأمها كانت تتكلم اللغة العربية أيضاً، وظلت والدته حتى آخر أيامها ترتدى عند الخروج الملابس الشعبية المصرية «الملاءة» و«الحبرة».
ومنذ ميلاده فى عام 1913- كما أسلفنا- عاش «مارسيل» وارتبط بمصر، حيث كان للأقليات الأجنبية واليهود وجود كبير فى المجتمع المصرى قبل ثورة 1952، وكانوا يمارسون مختلف الأنشطة التى يمارسها المصريون. ولم يكن المصريون يشعرون تجاههم بأى مشاعر معادية. بل كانوا يتعاملون معهم تعاملا إنسانيا رغم أنهم كانوا يتمتعون بامتيازات، لهم محاكمهم القنصلية والمختلطة، والتى ناضل المصريون من أجل إلغائها، وتحقق لهم ذلك فى عام 1937، بمقتضى معاهدة «مونترو». ولكن رغم ذلك، فسواء قبل إلغاء الامتيازات أو بعدها فقد كان الأجانب والأقلية اليهودية- سواء أكانوا مصريين أو غير مصريين- يمارسون نشاطهم داخل المجتمع المصرى دون تمييز. ومارسيل ارتبط بشعبها وأحس مشاكله وتفاعل معه. وكان له نشاط سياسى كبير فيها تسبب فى حبسه بسجن الإسكندرية عام 1949، ثم إبعاده عن مصر فى عام 1953.
غادر «مارسيل» مصر إلى بلده الأصلى إيطاليا، وعاش به حتى ما بعد التسعين عاماً، لكنه ظل يحمل ذكريات عذبة وطيبة عن نشأته الأولى، وكتاب «أوراق مناضل إيطالى فى مصر»، من إصدار دار العالم الثالث، يفتح أبواباً من المتعة والتأريخ لمصرنا الجميلة من خلال عيون هذا المصرى- الإيطالى الذى يلج بنا إلى عوالم مصر ما قبل ثورة 1952، حيث الجاليات الإيطالية واليونانية والأرمينية واليهود المتجنسون بالجنسية المصرية أو الذين بلا جنسية.. وللعلم اسم مارسيل شيريزى فى مصر كان «مارسيل إسرائيل»، وحين غادر مصر إلى إيطاليا عاد إلى اسم عائلته الأصلى وأصبح «مارسيل شيريزى»، لأنه رفض أن يرتبط اسمه بإسرائيل لسياستها العدوانية، وظل حتى نهاية حياته بإيطاليا عضواً فى الحزب الشيوعى الإيطالى، يعمل على تعبئة الإيطاليين لمساندة نضال الشعب الفلسطينى ضد العدوان الإسرائيلى. ولعل من الفصول الجميلة والشيقة بالكتاب الفصل الذى يضم حواراً لـ«مارسيل» وعنوانه يهودى من «ميت غمر»، ونُشر فى عام 1989 عند زيارته لمصر بعد 36 سنة من الإبعاد. أجرته معه بالقاهرة مجلة «أسرتى» الكويتية. وسأعود إليه فى المقال التالى لنرى كيف كان الشعب المصرى يتميز بروح تسامح نادرة وقدرة فائقة على التواصل الاجتماعى- على حد قول مارسيل للمحاور- وهل قطعت يهوديته جسور التواصل بينه وبين المصريين؟
عاد «مارسيل شيريزى» اليهودى الذى ولد فى مصر من عائلة أصولها إيطالية، إلى مصر عام 1989، بعد 40 سنة من الإقامة بمصر، وبعد 36 سنة من الإبعاد عن البلد الذى نشأ وترعرع فيه، وكان اسمه منذ الميلاد «مارسيل إسرائيل»، لكنه غيرّه بعد الممارسات العدوانية للإسرائيليين ضد الشعب الفلسطينى، وقد أجرى معه لقاء مهم- نشر فى مجلة كويتية- فى مصر، والمحاور مصرى بالطبع! وكان عنوان اللقاء (يهودى من ميت غمر) وكان عمره يقترب حينذاك من الثمانين. وكان مثل المصريين يقول النكتة ثم يستغرق مع محدثه فى الضحك عليها.. وكان فى قمة التفاؤل بالانتفاضة الفلسطينية التى تجرى أيامها، ويقول عنها بأنها أهم تطور فى تاريخ القضية الفلسطينية.. وأنه يركع بالذات لما يفعله هؤلاء الأطفال! ثم يضيف: إن الصهيونية أكبر كارثة حلت بتاريخ اليهود، وإنها شوهت الوعى اليهودى. وإليكم بعض الأسئلة التى وجهت إليه وإجابته عنها لنتعرف أكثر على هذا اليهودى المصرى الإيطالى والمجتمع المصرى آنذاك.
■ كيف كانت الأسر المصرية تعاملك كأجنبى وكيهودى؟
- لم نشعر أبدًا بأى تمييز فى المعاملة بسبب الجنس أو الدين، فالشعب المصرى يتميز بروح تسامح نادرة وبقدرة فائقة على التواصل الاجتماعى، وهو شعب عشرى وودود، وفى حى السكاكينى وفى ميت غمر ارتبطت أسرتى مع باقى الأسر المصرية بعلاقات صداقة، ومن ناحيتى فلم أشعر بأى امتياز لكونى من أصل أجنبى، على العكس فعندما قبض على فى قضية سياسية وميزوا بينى وبين المصريين فى المعاملة عن طريق تقديم طعام مخصوص، أضربت عن الطعام وكتبت الصحف وقتها «أجنبى يضرب عن الطعام رفضًا للامتيازات الأجنبية»، وكانت هذه الامتيازات ثقيلة بالفعل على المصريين، حتى إن الأجنبى كان يمكنه أن يهدد بدعوة القنصل، إذا ما اختلف مع البائع على سعر الطماطم.
■ وهل كانت الجاليات الأجنبية كبيرة فى هذا الوقت؟
- نعم، بالتأكيد حتى إنك لم تكن لترى سوى أجانب إذا سرت فى شوارع وسط البلد وأحياء القاهرة الراقية، وتحضرنى هنا نكتة فمنذ سنوات قابلت صديقاً فى مدينة «ميلانو» كان عائدًا لتوه من مصر بعد سنوات فراق طويلة، وسألته عن الأحوال فى مصر، فقال لى «زفت» وسألته لماذا «زفت»؟ فأجاب «تمشى فى الشوارع ما تلاقيش غير مصريين»!
■ هل قطعت يهوديتك جسور التواصل بينك وبين المصريين؟
- لا.. على الإطلاق.. أنا لم أشعر بأنى أجنبى لأنى كنت أعتز بمصريتى، وكنت أناضل مع الحركة المصرية الوطنية ضد الاستعمار، كما لم أشعر بأنى يهودى بسبب أجواء التسامح، وبسبب شعورى أولاً أننى إنسان، وكنت مشدودًا بكل وجدانى إلى مصر وشعبها، فمنذ الطفولة وفى مصانع أبى فى ميت غمر، هالنى أن المشرفين فى المصنع، وكان معظمهم من اليونانيين، يرتدون كمامات لحماية صدورهم من الغبار، بينما الأطفال الذين يجنون القطن لا يرتدون مثل هذه الكمامات وهم يعملون 16 ساعة فى اليوم وينامون فى حجرات ضيقة ويموت نصفهم على الأقل من مرض السل، ولما سألت أحد المشرفين عن سر هذا التمييز فى المعاملة قال لى إنهم عرب!
■ ما هى الأوقات الصعبة التى واجهتك وأسرتك فى مصر؟
- حدث ذلك بعد صعود هتلر للسلطة فى ألمانيا، فمع مذابح هتلر ضد اليهود فى ألمانيا زاد نفوذ الدعاية الصهيونية فى العالم وفى مصر، واستغلت هذه المذابح للترويج لفكرة أن حل المشكلة اليهودية يتحدد فى إقامة دولة لليهود فى فلسطين.
■ وهل كان فى سلوك الشعب المصرى ما يوحى بأجواء اضطهاد دينى لليهود؟
- للإنصاف لم يحدث فى مصر أى شىء شبيه أو قريب مما كان يحدث لليهود فى أوروبا المتقدمة. وشعورى تجاه خروج اليهود من مصر، أن اليهود لم ينتقلوا من الشتات إلى الوطن، بل من الوطن إلى الشتات!
المصدر: الاهرام - المصري اليوم
COMMENTS